نرحب بالكتاب الراغبين في الانضمام إلى مطر

الشك المنهجي و الكوجيتو عند ديكارت

الشك المنهجي و الكوجيتو عند ديكارت
يقول أرسطو في كتاب "الميتافيزيقا" "إن الدهشة هي التي دفعت بالمفكّرين الأوّل كما هو الأمر اليوم، إلى النظر الفلسفي". يظهر الفكر الفلسفي قديما وخاصّة مع الفلسفة اليونانية كفر مندهش، واع بجهله يسعى لكي يسيطر على الوجود نظريا ويتخلّص من دهشته. إن فكرا يعاني من الدهشة والجهل هو فكر باحث مازال يخطو خطواته الأولى، همّه الوحيد هو المعرفة. على نقيض ذلك فإنّ فكرا وجد تراثا فلسفيا ضخما ومعرفة قائمة الذات هو فكر لن يعاني من الدهشة والجهل ولن يكون همّه هو اكتساب المعرفة، وإنّما تمحيص تلك المعرفة المكتسبة وتقييمها. وهذا ما قام به الفكر الحديث مع ديكارت. فإذا كان الفكر اليوناني يبحث ويتساءل ليعرف فإنّ الفكر الحديث يشكّ وينقد ليتأكّد من يقين ما يعرف. نشهد مع ديكارت عودة الفكر على ذاته بالشكّ في يقين محتواه. فهل يفرض علينا بحثنا عن اليقين استخدام الشكّ؟ ما هي ظروف وشروط إجراء الشكّ؟ ما هي المواضيع التي يمكن الشكّ فيها؟
أوّلا: الشكّ المنهجي الديكارتي: دواعيه، ظروفه، مواضيعه ومراحله
I. دواعي الشكّ
1. احتواء المعرفة المكتسبة على أخطاء
يقول ديكارت في كتاب "التأمّلات" وبالتحديد في التأمّل الأوّل أنّه أدرك منذ سنوات أنّ المعارف التي اكتسبها لمّا كان صغيرا فيها أخطاء ومن الواجب التخلّص منها واكتساب اليقين. لكن بدا له أن هذه المهمّة صعبة لذلك أرجأ هذا المشروع إلى وقت لاحق. الآن يعتقد أنّه آن الأوان لتنفيذ مع عزم عليه سابقا وهو التخلّص من الخطإ والبحث عن اليقين.
ومعروف أن المعرفة التي يمدّ بها المجتمعُ الطفلَ هي ايديولوجيا تتضمّن أفكارا تبريرية دفاعية تربوية وليست معرفة علمية. غايتها هي تربية الطفل وإدماجه في المجتمع وليس مدّه باليقين. إذا السبب الأوّل للشكّ الديكارتي هو احتواء المعرفة المكتسبة على أخطاء.
2. الرغبة في إقامة قواعد ثابتة مستقرّة في العلم
و يكون ذلك ببحث علمي موضوعي يتمّ به تجاوز الأخطاء المكتسبة وبحث ميتافيزيقي يتمّ به تأسيس تلك المعرفة العلمية على مبادئ أوّلية.
لماذا أرجأ ديكارت مشروع الشك والبحث عن اليقين إلى وقت لاحق ولم يقم به بمجرّد التفطّن لاحتواء المعرفة التي اكتسبها على أخطاء؟
السبب هو أن هذا المشروع ليس هيّنا بل يتطلّب ظروفا وشروطا. يقول ديكارت متحدّثا عن هذا المشروع "غير أن المشروع بدا لي ضخما للغاية، فتريّثت حتّى أدرك سنّا لا سنّ أخرى، بعدها، آمل أن أكون فيها أصلح نضجا لتنفيذه. من أجل هذا أرجأته مدّة طويلة. أمّا اليوم فقد غدوت أعتقد أنّني أخطئ، إذا تردّدت أيضا، دون أن أعمل في ما بقى لي من العمل. الآن وقد تخلّصت من كلّ شاغل، وظفرت براحة مضمونة في عزلة مطمئنة فإنّني أجدّ حرّا في تقويض جميع آرائي القديمة" (التأمّلات.I§1-2). يتوضّح لنا من قول ديكارت أن هناك على الأقلّ شرطيْن لهذا المشروع.

II. ظروف وشروط إجراء الشك
1. الـنـضـــج
النضج هو صفة الفكر الذي لم يعد يتقبّل فقط بل أصبح قادرا على الشكّ والتقييم والنقد وكذلك قادرا على اكتشاف حقائق جديدة بمفرده.
2. التخلّص من الشواغل و التفرّغ
إن كثرة الشواغل تبدّد طاقة الفرد لذلك بقدر ما يكون الفرد منصبّا على موضوعٍ واحدٍ بقدر ما ينجح في التغلّب عليه. ومعلوم أن ديكارت وهو فرنسي أنجز مشروع الشك والبحث عن اليقين في مدينة لاهاي في هولندا أين عاش في عزلة وكانت علاقاته بالآخرين محدودة جدّا.
بناء على ما سبق، هل نستطيع أن نضبط خصائص الشك الديكارتي؟

III. الشك الديكارتي منهج من أجل البحث عن الحقيقة
يمكن أن نقول أن الشكّ الديكارتي هو:
1. هو شكّ إرادي (volontaire) اختاره ديكارت وحدّد ظروف إجرائه. وهذا على نقيض الشك الريبي (sceptique) الذي هو شكّ مفروض لأنّ الريبي لم يختره وإنّما فُرض عليه بعد بحث.
2. هو شك مؤقت (provisoire) لأنّه يفضي إلى حقائق بينما الشك الريبي هو شك ّ نهائي لأنّ الفكر هو دائما في حيرة وعجز وغير قادر على إثبات أو نفي أيّ شيء.
3. هو شكّ متفائل (optimiste) لأنّ هذا الشكّ يصاحبه أمل تجاوزه بينما الشكّ الريبي هو مأزق لا مخرج منه ولا يعقبه تجاوز.
4. هو شكّ منهجي (méthodique) لأنّه تقنية موضوعة من أجل البحث عن الحقيقة. وهذه الصفة هي الصفة التي اشتهر بها الشك الديكارتي. على نقيض الشك المنهجي الديكارتي فإنّ الشك الريبي هو شكّ مذهبي لأنّه شكّ جاء نتيجة لعدم الوصول إلى أيّ حقيقة.
خلاصة القول، الشك المنهجي الديكارتي هو الذي يهدم من أجل البناء السليم. هو هدم يعقبه بناء. هو هدم من جهة أنّه إلغاء للمشكوك فيه ولما هو محتمل الشكّ. وهو بناء من جهة أنّه سبيل لإقامة معرفة صائبة.
لا يبحث الشكّ المنهجي عن تنقية معارفنا وإنّما عن تأسيسها من جديد.

VI. ما هي المواضيع التي شكّ فيها ديكارت؟
أوّلا وقبل كلّ شيء ما معنى الشكّ (doute)؟ الشكّ هو التوقّف عن الحكم. والتوقّف عن الحكم عند أهل المنطق هو عدم الربط بين الحامل (الموضوع أو المنعوت) و المحمول (الصفة أو النعت). فعندما أسألك هل الله موجود؟ وتقول أشك في أن يكون موجودا. فأنت هنا لم تربط الله (الحامل) بصفة الوجود (محمول). كما أنّك لم تجزم بأنّه غير موجود. فأنت هنا لم تربط الله بالعدم. فالشكّ هو تعليق للحكم أو التوقف عن الحكم. ما هي المواضيع التي شكّ فيها ديكارت؟
I. الشك في المعرفة الحسّية
1. طبيعة المعرفة الحسّية
المعرفة الحسّية هي جملة الإحساسات التي تمدّنا بها الحواس في علاقتنا بالعالم الخارجي مثل الحرارة، البرودة، الحلاوة، المرارة...
ـ المعرفة الحسّية شكل من أشكال العلاقة بين الإنسان والعالم.
ـ المعرفة الحسّية هي تصوير للأشياء التي نتفاعل معها وليست معرفة داخلية لهذه الأشياء.
2. قيمة المعرفة الحسية
ـ إن الحواس تخدعنا لأنّها تصوّر لنا الأشياء على غير ما هي عليه في الواقع. من الأمثلة التي يذكرها ديكارت، يذكر مثل المصابين بمرض الصفراء الذين يرون بالضرورة كلّ شيء أصفر اللون بسبب هذا المرض.
ـ الأجسام البعيدة تبدو لنا أصغر ممّا هي عليه.
ـ تبدو الأبراج من بعيد مستديرة لكن في الواقع مربّعة.
ـ كلّ إحساس يظلّ ذاتيّا طبقا لحدّة حواس صاحبه ومزاجه. فالشخص المصاب بالحمّى يحكم على الماء الدافئ بأنّه بارد. والشخص الذي مرّت عليه عاصفة ثلجية يحكم على نفس الماء بأنّه يميل إلى الحرارة.
ـ المعرفة الحسية هي معرفة محدودة لأنّها معرفة للمظاهر أي المظاهر التي تظهر بها الأشياء.
II. الشكّ في وعينا بالوجود
اعتراض على النتيجة السابقة: إن الحواس لا شكّ تخطئ في تحديد الأشياء البعيدة لكن من المبالغة القول إنّها تخطئ في تحديد كلّ الأشياء. يقول ديكارت "ولئن كانت الحواس تخدعنا، بعض الأحيان في أشياء صغيرة جدّا وبعيدة عن متناولنا، فهناك أشياء كثيرة أخرى لا يُعقل أن نشكّ فيها، وإن كنّا نعرفها بطريق الحواس، مثال ذلك، أن ألبس عباءة المنزل، فأجلس هنا قرب النار وقد مسكت بين يدي تلك الورقة وأشياء أخرى من هذا القبيل. فكيف أستطيع أن أنكر أن هاتين اليدين وهما يديّ وذلك الجسم وهو جسمي." (التأمّلات.I.§4) يصعب على الفرد أن ينكر الأشياء التي يحتكّ بها مباشرة كأن ينكر لباسه. صعوبة هذا الإنكار متأتّ من كوننا لا نحسّ بها فقط بل نعي بوجودها أيضا. يبدو الإحساس كمقدّمة للوعي. ومواصلة الشك في الإحساس سيجرّ معه الشك في الوعي وهذا أمر يصعب الشك فيه. قد أشكّ في حجم القمر كما أراه، ولكن كيف أشكّ في أنّني ألبس عباءة حمراء وأجلس هنا قرب النار؟
كيف تمكّن ديكارت من أن يدخل الشك في وعينا بالموجودات؟
أمكنه ذلك عن طريق موضوع الحلم. يقول ديكارت إن الوضعية التي أنا عليها الآن أي أنّني أجلس هنا قرب المدفأة والمكتب أمامي سبق لي أن حلمت بها. فما الذي يدريني أنّني الآن في يقظة ولست في حلم؟ إن وعي الآن يقنعني أنّني لست في حلم. هذا صحيح!! ولكن الحالم هو أيضا لا يعتقد أنّه يحلم وإنّما يعتقد أنّه يتصرّف عن قصد و تصميم. فلماذا لا تكون اليقظة التي أدّعيها هي من قبيل تلك اليقظة التي يدّعيه الحالم لا اليقظة التي يدّعيها المستيقظ؟ أنا لم أعد أعرف هل أنا في يقظة أم في منام.
III. الشكّ في معقولية العقل
اعتراض على النتيجة السابقة: بعد الشك في المعرفة الحسّية و الشكّ في وعينا بالوجود يقول ديكارت إن من الصعب الشك في الحقائق الرياضية فسواء كنت في يقظة أم في حلم فالمربع لا يزيد عن أربع أضلع متساوية واثنان مع اثنيْن يساويان أربعة. هل حُلّت مشكلة عدم التفريق بين اليقظة و الحلم والشكّ في الوعي بالوجود؟ لا! لم تحُلْ، بل تعقّدت الأمور أكثر.
كيف تمكّن ديكارت من أن يدخل الشكّ في الحقائق الرياضية ومن وراء ذلك الشك في معقولية العقل؟
كان ذلك بسبيليْن:
أ. المقارنة مع المخطئين: يقول ديكارت طالما أن هناك أناسا يخطئون في أمور بسيطة و لا يعون أنّهم يخطئون فلماذا أكون أنا مثلهم أنا الذي يعتقد أنّه لا يتوهّم عندما يرى و يسمع و يلمس ويصدر الأحكام؟ في كتاب التأمّلات يقول ديكارت "ثمّ لمّا كنت أرى أحيانا، كيف أنّ الاخرين يغلطون في الامور التي يحسبون أنّهم أعلم النّاس بها، فما يدريني لعلّه قدّر لي أن أغلط أنا أيضا كلّما جمعت إثنين وثلاثة، أو أحصيت أضلاع مرّبع ما أو أطلقت حكما" (التأمّلات I §9).
ب. فرضية الشيطان الماكر (l’hypothèse du malin génie): يقول ديكارت لماذا لا نكون قد خلقنا لا من طرف إله طيّب ولكن من طرف شيطان ماكر خلقنا بطريقة تجعلنا نخطئ ولا نتفطّن لخطئنا. مثال نحن نقول عادة إنّنا إذا أضفنا نفس العدد لطرفي المعادلة فإن المعادلة تظلّ صحيحة. هذا ما نعتقده ولكن لماذا لا تكون عقولنا الناقصة هي التي ترى ذلك والحقيقة هي عكس ذلك. ونحن كلّنا نعتقد ذلك لأنّ الإعاقة إنسانية وليست فردية. الإعاقة في الخلق. لماذا لا يكون هذا الشيطان الماكر احتفظ بالحقيقة الحقّة لنفسه ليسخر منّا؟ أ لا يمكن أن تكون الحقائق الرياضية المعروفة هي نسيج من الأخطاء، أمّا الحقائق الحقة فهي من مشمولات ذهن ذلك الشيطان الماكر الذي صنعنا بطريقة تجعلنا مهيّئين للخطإ بدون وعي؟ يقول ديكارت "سأفترض إذا أن لا إلها حقّا الذي هو مصدر الحقيقة الأعلى بل شيطانا ماكرا، لا يقلّ خبثه ومكره عن بأسه قد استعمل كلّ ما اوتي من حنكة لتضليلي" (التأمّلات،I،§12). قد يعترض البعض على ديكارت بالقول إنّ شكّه في قدرة العقل ينبني على فرضية والفرضية تحتمل الصواب كما تحمل الخطإ فلماذا يسلّم بها ديكارت على أنّها صحيحة وأن هناك بالفعل شيطان ماكر فقد يكون غير موجود؟ صحيح أن فرضية الشيطان هي في نهاية المطاف هي فرضية ولكنّها ليست مستبعدة كما أنّها ليست مؤكّدة فهي تظلّ مجرّد فرضية. ولكن! وهنا مربط الفرس: وجودها كفرضية يدعّم الشك لا اليقين بالنسبة لباحث يبحث عن اليقين الذي لا يشوبه الشكّ. لا يريد ديكارت الحقيقة كما تظهر لعقله وإنّما يريد الحقيقة الحقّة الحقيقة المطلقة الحقيقة التي يجب أن تكون. يريد أن يعرف الحقائق التي يخبّؤها الإله في ذهنه. يا لعظمة هذا الرّجل!!
بالشكّ في معقولية العقل ـ بإقحام فرضية الشيطان الماكر ـ ينتهي ديكارت إلى الشكّ الجذري والشامل لكلّ شيء بما في ذلك العقل. وهذا الشكّ في معقولية العقل يكشف عن عظمة الفكر الفلسفي. فأنْ يشكّ العقل في قناعاته وبديهيّاته ومعقوليـتـَه معناه أنّه لا يميل إلى ذاته بل إلى الحقيقة. يقول آلان "أن نفكّر هو أن نقول لا". إن هذه "اللا" يقولها الفكر للوهم و للخطإ ولكن الأهمّ من ذلك هو أنّه يقولها لنفسه. إن الفكر الفلسفي لا ينتظر الإصلاح من الخارج بل يصلح نفسه بنفسه ويتجسّد ذلك في الشكّ (التوقف عن الحكم) والنقد (التقييم وبيان الجوانب السلبية والإيجابية) والتأسيس (طرح أفكار جديدة).
ملاحظة: هذه الفرضية زجّت بالعقل في مأزق لا مخرج منه. ولا يستطيع أن يلغيها إلاّ فكر يتجاوز الفكر الإنساني. لماذا؟ لأنّ أي محاولة سيقوم بها العقل ليرجع ثقته بنفسه سيظلّ يحكم على نفسه بأن "هذا ما يراه" وليس "ما يجب أن يراه". سيظلّ يشكّ في إمكانياته بدون مخرج؟ كيف تجاوز ديكارت فرضية الشيطان الماكر؟ تجاوزها بفرضية أخرى هي فرضية الإله الطيّب. يقول ديكارت حتّى أطمئنّ إلى ما أصل إليه عندما أفكّر يجب أن تكون لي ثقة في أن الله خلقني على أحسن صورة. بفرضية الإله الطيّب يكون ديكارت قد أسّس العلوم والمعرفة عموما على الميتافيزيقا.

ثانيا: الخروج من الشكّ وظهور الحقيقة الأولى: أنا موجود
بعد هذا الشك الجذري والشامل، كيف خرج ديكارت من الشكّ؟
خرج ديكارت من شكه بالتفطّن إلى أنّنا نجد صعوبة كبيرة في تصوّر أن الذي يشك ليس شيئا موجودا في الوقت الذي يشك فيه. الشك هو هدم لكلّ شيء فلا أشياء ولا سماء ولا أرض ولا ذات... فلا بقاء إلاّ لعملية الشك أي الشكّ كنشاط. هذا الشك كنشاط ذهني لا بدّ أنّه يدلّ على وجود ذهن قام به و هذا الذهن هو بالضرورة موجود. خرج ديكارت من الشكّ بالتساؤل عمّاذا يعني الشكّ؟ فاكتشف أنّ القائم به بالضرورة موجود أي في نهاية المطاف خرج من الشكّ بالشكّ وتلك عظمته. لو خرج ديكارت من الشكّ بشيء آخر، لقلنا له من أين لك هذا الشيء وأنت قد تشكّكت في كلّ شيء؟ ديكارت لم يذهب بعيدا عن الشك للخروج من الشكّ ولم يتخلّص من الشكّ بحجج خارجية كما فعل الغزالي الذي قال أنّه تخلّص من الشكّ بنور قذفه الله في صدره. هذا الشكّ الهدّام يصبح أداة برهنة على وجود الأنا. بتعبير نحوي بسيط الشكّ هو فعل لا بدّ له من فاعل يقوم به وهذا الفاعل هو أنا. من هنا جاءت قولة ديكارت "أنا أفكر إذا أنا موجود". هذه الجملة مشهورة باسم "الكوجيتو" لأنّ ترجمتها بالاتينية« Cogito ergo sum » . "كوجيتو" تعني حرفيا "أفكر". الكوجيتو طرحه ديكارت في حديث الطريقة في (الجزء 4 § 1) وفي التأمّلات (التأمّل2 § 4) وفي المبادئ (الجزء 1 § 7). إن اخترتنا الدقة، كان يجب على ديكارت أن يقول "أنا أشكّ أنا موجود" ولكن باعتبار أن الشك هو شكل من أشكال التفكير مثل الحكم والوصف والجمع والطرح والقسمة.... اختار ديكارت لفظة "التفكير" باعتبارها اللفظة التي تشمل كلّ هذه الأنشطة الذهنية. يتّضح لنا إذا أن الشكّ المنهجي الديكارتي له دور في الهدم كما له دور في البناء. فهو أداة هدم وبناء في نفس الوقت.
إذا الحقيقة الأولى التي اكتشفها ديكارت من الشكّ أو من التفكير هي أنّه موجود. نلاحظ هنا أن اكتشاف الأنا لوجودها ثمّ بطريقة تحليلية أي بتحليل معنى "أشكّ" و "أفكّر" إذ أنّني بمجرّد أن أقول "أنا أفكّر" حتّى أقول "أنا موجود"، هما متلازمان. فوجود الأنا متضمّن في "أفّكر" وإذا كان الأمر كذلك فأنا بالضرورة موجود. الطريف في الأمر أن الشك قادر على أن يهدم كلّ شيء إلا نفسه لأن كلّ شكّ في الشكّ هو نفي له كموضوع ولكن إثبات له كعملية من جديد. يعني عندما أشكّ في الشكّ. أهدم الشكّ الذي أشكّ فيه كموضوع، ولكن أوجده من جديد بفعل الشكّ فيه وهكذا يظلّ كلّ شكّ في الشكّ هدم لشكّ وإيجاد لآخر وهكذا دواليك.
ديكارت يقول "أنا أفكر إذا أنا موجود" ولكن هل سأظلّ موجودا عندما أعتقد أنّني غير موجود؟
قد نعترض على كوجيتو ديكارت بالقول أنّه كان يمكن أن تكون هذه الحقيقة "أنا موجود" مقبولة لو كان شكّ ديكارت في الأشياء الخارجية فقط. ولكن كيف له بعد أن شكّ في كلّ شيء بما في ذلك وجوده، يكتشف وجوده وكأنّه يقول أنا أعتقد أننّي غير موجود إذا أنا موجود؟ صحيح أن ديكارت شكّ في كلّ شيء ولم يستثن موضوعا وشكّه شمل وجوده أيضا. ولكن في هذا المستوى من الشكّ نوعية الموضوع الذي أشكّ فيه أو أفكر فيه لا تهمّ. فذلك لا يغيّر ما تعنيه عملية الشكّ. المهمّ هو أنّني إن كنت أشكّ فأنا بالضرورة موجود مهما كان الموضوع الذي أشكّ فيه. قد أجمع حججا عديدة وبراهين جيّدة وانتهي إلى أنّني لست موجودا. فمضمون اعتقادي هو أنّني لست موجودا. ولكن بقطع النظر عن هذا المضمون فيكفي أن أعتقد حتّى أكون موجودا. ليس المهمّ الموضوع الذي أفكّر فيه أو ما أنتهي إليه من أحكام وإنّما التفكير نفسه. عندما أحاول إثبات عدم وجودي فإنّني أثبت وجودي بهذه المحاولة.
هل أن كوجيتو ديكارت هو نتيجة استدلال منطقي؟
ينقد الفيلسوف الفرنسي غاسندي (Gassendi) كوجيتو ديكارت بقوله إن الحقيقة التي انتهى إليها ديكارت "أنا موجود ليست نتيجة الشكّ المنهجي وإنّما نتيجة لإستدلال. الاستدلال هو تفكير يستنتج نتيجة من مقدّمتين. والإستدلال الذي استخدمه ديكارت في نظر قاسندي هو: كلّ من يفكّر يوجد(مقدّمة أولى) أنا أفكر (مقدّمة ثانية) إذا أنا موجود (النتيجة). وما يرمي إليه قاسندي هو أن يبيّن أن ديكارت لم يكن صادقا في شكّه فقد كان يستبطن مقدّمتين لم يشملهما الشكّ. انطلق منهما ديكارت واستنتج وجوده. فالشكّ الديكارتي لم يكن شاملا ولم يكن بنّاء. الحقيقة أن ديكارت لم يستنتج وجوده بفعل هذا القياسِ. لأنّ ديكارت لا يحتاجه أصلا. ديكارت لا يحتاج ليركّب الأفكار مع بعضها ويستنتج. ديكارت استنتج وجوده بالتساؤل عن معاني الشكّ. وتفطّنَ إلى أنّ الشكّ يعني بالضرورة وجود شاكّ. ماذا يعني هذا؟ يعني أن الذات تقرّ بوجودها من وعيها بذاتها و لا تحتاج لأيّ شيء آخر على الإطلاق. هذه النتيجة تستوفي بحقّ معنى الأنانة أو الإنية المتعالية أو الأنا وحدية (Solipsisme). هذا الوعي بالذات سيحصل حتّى ولو كان الشاك أو المفكّر هو الوحيد في العالم. الوعي بالذات لا يحتاج إلى برهان من الخارج. ولو حاولنا أن نقنع أيّ إنسان بآلاف الحجج أنّه غير موجود لما اقتنع ولما خامره شك في وجوده. ماذا تسمّى هذه الكيفية التي يعي فيها الذات ذاتها مباشرة. تسمّى الحدس (intuition). بالحدس تعرف النفس نفسها بدون وسائط. فالمسافة بينها وبين نفسها منعدمة بينما تعرف الأجسام المادية (بما في ذلك الجسم الذي توجد فيه) بطريقة حسية تجريبية كأشياء غريبة عنها. يعتبر ديكارت أن الحدس هو أفضل أنواع المعرفة لأنّ الروح تستمدّ يقين وجودها من ذاتها بدون واسطة.
إذا يمكن أن نقول إن ديكارت أدرك وجوده بطريقة حدسية. وهذا يعني أن أساس وجود الأنا هو التفكير وبالتالي إذا توقّفتُ عن التفكير أتوقّفُ عن الوجود.
ولكن هل يخضع الوجود للتفكير إلى هذا الحدّ؟ وبتعبير آخر هل ينبني الوجود على التفكير أم ينبني التفكير على الوجود؟ لماذا أصبح الوجود يبرهن عليه عند ديكارت والحال أنّه ما كان ليفكّر لو لم يكن موجودا؟ هل أن الإنسان يفكّر ثم يوجد أم يوجد ثمّ يفكّر؟
صحيح أن الإنسان يوجد أوّلا ويفكّر لاحقا ولكن منذ أن أجرى ديكارت عملية الشكّ حتّى قلب الأمر فرفع من قيمة التفكير وحطّ من قيمة الوجود فأصبح التفكير في صورة الشك هادما لكلّ شيء وبالتالي لا وجود لأيّ شيء. بذلك أصبح الوجود خاضعا لاعتراف الفكر به. بالنسبة لديكارت ولأنّه أجرى الشك، أصبح كلّ شيء ينطلق من التفكير كعملية وليس حتّى من الفكر. لأنّ هذا الفكر الذي هو أنا سنكتشف وجوده لاحقا لذلك هو يقول "إذا أنا موجود" وكأنّه أمام اكتشاف. منطقيا لكي يشك الإنسان لا بدّ أن يوجد أوّلا فالوجود من هذه الناحية سابق عن التفكير ولكن إذا أخذنا ما نتج عن التفكير بعين الاعتبار، نقول أن هناك وجودا سابق عن الشكّ أُلغيَ به، وهناك وجودا لاحق عن الشكّ أثبت به. بحيث تكون مراحل العملية كالتالي: أنا موجود (وهذا الوجود أُلغي بالشك) تلاه أنا أشكّ، تلاه أنا موجود (وهذا الوجود أثبت بالشك أو بالتفكير).
إذا كان شكّ ديكارت شاملا، فلماذا يقول أنا أشكّ أنا موجود ولا يقول أنا أشكّ أنا والعالم موجودان؟ لماذا الشكّ يشمل كلّ شيء والإثبات يقتصر على الأنا فقط؟
ديكارت استنتج وجوده لأنّ وجوده مرتبط بالتفكير والتفكير مرتبط بالشك ولأنّ العالم هو موضوع يُشكّ فيه فقط ولا يشكّ فلا يمكن أن نستنتج وجوده من الشكّ. سوف يثبت ديكارت لاحقا وبطريقة أخرى أن العالم موجود. فكرة أن الشك يهدم العالم ويثبت الذات فقط نقدها ادموند هوسّرل معتبرا أن الشكّ أو التفكير بشكل عام لا يمكن النظر إليه كعملية معزولة عن الموضوع. صحيح أن التفكير يثبت وجود الذات المفكّرة ولكن يثبت في نفس الوقت الموضوع المُفكّر فيه لكن هذا ما لا يقرّه ديكارت.

ثالثا: الحقيقة الثانية: أنا شيء مفكّر
بعد أن أدرك ديكارت وجوده تساءل سؤالا خطيرا: من أنا هذا الذي يدرك أنّه موجود؟ ديكارت أدرك أنّه موجود، لكن لا يعرف بعدُ من هو، لا يعرف ماهيته.
تخيّل نفسك أوّل ما وعيت بذاتك وعيت بها وأنت في غرفة مظلمة مقيّدا بالسلاسل يعني أنّك لم تشاهد نفسك قطّ كما أنّك غير قادر على أن تتحرّك أو تتلمّس جسمك. تقريبا تلك هي الحالة التي وجد ديكارت نفسه فيها بعد أن خرج من الشكّ. يقول ديكارت :
"يجب أن نستخلص ونأخذ كأمر ثابت أن هذه القضية أنا كائن، أنا موجود هي قضية صحيحة جبرا، في كلّ مرّة انطق بها أو أتذهّنها. إلاّ أنّني لا أعرف بوضوح كاف أي شيء أنا، أنا المتأكّد من أنّي كائن" (التأمّلات،II،§4 و 5).
«Il faut conclure, et tenir pour constant, que cette proposition, je suis, j’existe, est nécessairement vraie, toutes les fois que je la prononce ou que je la conçois en mon esprit. Mais je ne connais pas encore assez clairement ce que je suis moi qui suis certain que je suis »
إلى أيّ شيء انتهى ديكارت في بحثه في ماهيته؟
يقول ديكارت: "لكن أيّ شيء أنا إذا؟ أنا شيء مفكر. وما الشيء المفكر؟ إنّه شيء يشك، ويتصوّر، ويثبت، وينفي، ويريد، ولا يريد ويتخيّل أيضا ويحسّ" (التأمّلات،II،§ 9).
« Mais qu’est-ce que donc que je suis ? une chose qui pense: qu’est-ce qu’une chose qui pense ? c’est-à dire une chose qui doute, qui conçoit, qui affirme, qui nie, qui veut, qui ne veut pas, qui imagine aussi et qui sent »
لماذا يعرّف ديكارت الأنا بأنّه شيء مفكّر؟ لماذا هذا التحديد في إطار تمشّي تفكير ديكارت؟
ديكارت انطلق من 'أنا أفكّر" أو من الكوجيتو وأقرّ بوجود هذه الأنا. حتّى يكون تفكيره منطقيا من المفروض أن الأحكام التي سيصدرها حول الأنا من المفروض أن تأخذ بعين الاعتبار المنطلق أو الأرضية. نحن نعرف أن هذه الأرضية هي الشك أو التفكير، إذا كان هذا التفكير دلّ على وجود شيء، فأوّل صفة لهذا الشيء يجب أن تكون التفكير. أنا شيء مفكّر لأنّني ما وُجدت أصلا إلاّ لأنّني أفكّر. لذلك يقول ديكارت "أنا شيء مفكّر".
لماذا يعرّف ديكارت الأنا بالشيء المفكّر ولا يتحدّث عن الجسد كجزء من الأنا؟ لماذا الأنا تُحمل على الروح دون الجسد عند ديكارت؟
في إطار التمشّي المنطقي لتفكير ديكارت، الجسم لا وجود له بعد. الأرضية التي بنى عليها ديكارت استنتاجاته هي الشكّ أو التفكير. وهذه الأنا ما وجدت إلاّ لأنّها هي التي تفكّر. فهي شيء موجود ويفكّر. النشاط الفكري هو نشاط للأنا وهذا النشاط ليس جسميا لذلك فحقيقة الأنا في نظر ديكارت تقتصر على النشاط الذي أظهر وجودها. إن الذي ينطق بالأنا هو الروح فقط لذلك في هذا المستوى لا يمكن أن نتحدّث عن الجسد، إذ كيف يستنتج ديكارت وجود الجسد من التفكير؟ إن التفكير أو الشكّ هو حجة على وجود الروح فقط لذلك فالأنا لا يدخل فيها الجسم ولا تعني ثنائية الروح والجسد. إن الجسم ليس مقوّما من مقوّمات الأنا. لو اعتبر ديكارت أن المقصود بالأنا هو ثنائية الروح والجسد لأخطأ لأنّنا ساعتها سنسأله كيف أثبتّ أن لك جسما انطلاقا من الشك والتفكير والحال أن النشاط الفكري ليس جسميا.
ماذا يعني ديكارت عندما يعرفّ الأنا بأنّها روح والروح بأنّها جوهر مفكّر؟
عند ديكارت هناك ثلاثة جواهر في الكون وهي: الله والرّوح والمادّة. الله جوهر مفارق، والرّوح جوهر مفكّر والمادّة جوهر ممتدّ. المقصود بكلمة "جوهر" معناه كيان أصلي مستقلّ لا يمكن إعدامه أو تبديله إلى جوهر آخر. فلسفة ديكارت هي فلسفة اثنينية تقرّ بوجود جوهرين متميّزين في الطبيعة لا نقدر أن نرجع أحدهما إلى الآخر هما المادّة والرّوح. الرّوح هي كيان لامادّي ماهيتها وطبيعتها التفكير. بينما المادّة هي جوهر ممتدّ.
فما هو المقصود بالجوهر الممتدّ؟
إن الأشياء عند ديكارت سواء كانت صناعية مثل القلم أو طبيعية مثل الشجرة ليست جواهر لأنّها لا تستطيع أن تقاوم التغيّر فالخشب يمكن تحويله إلى آنية والآنية يمكن تحويلها إلى رماد، فمهما كانت مادّة هذه الأشياء، ومهما كانت أطوالها أو الألوان التي تظهر بها تظلّ مظاهر قابلة للتغيّر، لكن هناك جوهر ثابت وراء هذه المظاهر هو المادّة. فإذا لم نغترّ بالأشكال والألوان وعموما المظاهر وأدركنا أنّها يمكن أن تتغيّر، أمكننا أن نوحّد نظريا بين الأشياء وننظر إليها ككلّ متجانس وكقطعة كبيرة من المادّة لامتناهية الأطراف، سوف ننظر للطبيعة كصفحة مياه البحر خاصّة و أن ديكارت يرفض وجود الخلاء. يمكن أيضا أن نشبّه الطبيعة بكمّية لامتناهية من الطين المتجانس نصنع منه أوني فخارية مختلفة نحطّمها ونعيد تشكيلها وراء هذه الأشياء هناك طين يوحّد بينها. خلاصة القول المقصود بالمادّة جوهر ممتدّ هو أن الأشياء المادية التي نراها، مهما كان معدنها يمكن تحطيمها وخلطها مع بعضها البعض بحيث نحصل على كلّ متجانس ولامتناهي نسمّيها الطبيعة وهذه الكمّية هي كمّية ثابتة (quantité constante) لا نستطيع أن ننقص منها أو نزيد فيها. فإذا أردنا أن ننقص منها فأين سنذهب بالكمّية التي أخذناها وإذا أردنا أن نريد فيها من أين سنأتي بهذه الكمّية؟
كلّ جسم إنساني هو جزء من هذا الجوهر الممتدّ الذي هو الطبيعة.
إذا كان كلّ فرد له جسد هو جزء من الجوهر الممتدّ وروح نقول عنها إنّها جوهر مفكّر، فهل يعني هذا أن الإنسان يتكوّن من جوهرين؟
نعم الإنسان عند ديكارت يتكوّن من جوهرين متحايثين. هما الجوهر المفكّر وهو الروح والجوهر الممتدّ هو الجسد.
النفس= هي الجوهر المفكر والناطق بإسم الأنا.
الجسد= هو جوهر ممتدّ غير واع وجزء من الكتلة المادية اللامتناهية في العالم.
هل أصاب ديكارت في ما ذهب إليه؟
الواقع أن أيّ إنسان يدرس غيره كموضوع لا بدّ أن يحكم عليه بأنّه روح وجسد ولكن عندما يسعى ليعبّر عن إنسانيته (كروح وجسد) يجد نفسه يعبّر عن نفسه فقط. فالأنا التي تنطق فيه هي صوت الرّوح فقط فالجسد لا يتكلّم و لا يدخل في هذه الأنا. لذلك مع ديكارت الحق في أن يحصر الأنا في الروّح فقط. لكن يظلّ الإنسان كموضوع دراسة تركيبة من جسد وروح. الأنا جوهر واحد والإنسان جوهران.
الأنا = روح
الإنسان = روح + جسد
إن ما رأيناه يتعلّق بتحديد معنى الأنا والإنسان ولكن ما هي طبيعة العلاقة بين الرّوح والجسد؟
عندما يحلّل ديكارت هذه العلاقة بين الرّوح والجسد نجده يتحدّث عن قطيعة في مستوى طبيعة كلّ منهما وعن ترابط في مستوى الوجود.
القطيعة: لا يساوي ديكارت بين الرّوح والجسد في مستوى الطبيعة. فالرّوح هي التي تدرك وتختار وتنطق، بينما الجسد أخرس لذلك فالرّوح تمتاز على الجسد لأنّ القيادة بيدها في التي توجّهه وتتحكّم فيه وهنا يلتقي ديكارت مع أفلاطون.
الترابط: لكن رغم هذا الامتياز الذي للروح فإنّها لا يمكن أن توجد في هذه الحياة بدون جسد. فالإنسان لا يمكن أن يسمّى إنسانا إلا بتلازم الرّوح والجسد. طبعا نتحدّث هنا عن الإنسان الحيّ. وليس عن جثّته. ففي حالة الموت يكون الجسد بلا روح. أضف إلى ذلك فإنّ ديكارت لا يرفع من قيمة الجسد ولا يحتقره مثل أفلاطون.
وممّا يبيّن الترابط بين الروح والجسد هو أن الروح تتأثّر بما يصيب الجسد. كما يقول "إنّي لا أقيم فقط في جسدي كربّان في سفينته" (التأمّلات IV §24)
« Je ne suis pas seulement logé dans mon corps, ainsi qu’un pilote en son navire » (M6 §24)
في هذه القولة يقيم ديكارت مقارنة بين العلاقة بين الرّوح والجسد والعلاقة بين الربّان والسفينة.
1. إن الربّان وإن وُجد في السفينة إلاّ أنّه ليس جزءا منها بينما الرّوح محايثة للجسد أي أن الروح غير متعيّنة في مكان ما من الجسم على الخلاف الربّان الذي يمكن أن يتنقّل في السفينة فيوجد في مقدّمتها كما يمكن أن يوجد في وسطها.
2. إن التحايث بين الرّوح والجسد يجعل كلّ حادث يتعرّض له الجسد يصيب الروح في نفس الوقت. فالإحساس بالجوع يعقبه الشعور بالألم بينما الضرر الذي يلحق بالسفينة كدقّ مسمار في الخشب لا يؤثر على الربّان.
يتبيّن لنا أن موقف ديكارت من الجسد أكثر موضوعية من موقف أفلاطون الذي لا يتحدّث عن الجسد إلاّ بأحكام من قبيل "الشيء الخبيث" "العائق"...
مقارنة بين أفلاطون وديكارت في ما يخصّ علاقة الرّوح بالجسد:
1. الأنا عند أفلاطون روح مفكّرة وكذلك الأمر عند ديكارت.
2. الإنسان عند أفلاطون روح (جوهر واحد) بينما هو عند ديكارت روح وجسد (جوهران).
3. عند أفلاطون الجسد وعاء للرّوح ← الرّوح تتواجد مع الجسد لكن هناك قطيعة بينهما كالماء في الكأس أو الربّان في السفينة. بينما عند ديكارت الرّوح محايثة للجسد ← تواجد للرّوح في الجسد لكن دون تعيين كالماء في قطعة الإسفنج أو كالسكر في الحليب.
4. في نظر أفلاطون الجسد عائق، شيء حقير وخبيث ←نظرة أخلاقية بينما هو عند ديكارت آلة ←نظرة موضوعية واقعية
5. أفلاطون يقدّس الرّوح ويزدري الجسد على نقيض ذلك فإن ديكارت يقدّس الرّوح لكن لا يزدري الجسد ولا يرفع من شأنه.
 

نقوس المهدي

مشرف
طاقم الإدارة
موضوع شائق وعميق هذا الذي تتناول من خلاله علاقة الفلسفة بالشك ، باعتباره المنفذ الاول للاجابة على العديد من الاسئلة الوجودية العسيرة التي تواجه الانسان ذلك المجهول، بحسب تشبيه الكسيس كارليل..
فالفلسفة؟، بوصفها المولود الذي انجبته الدهشة، بحسب توصيف أرسطو
لها علاقة وطيدة بالواقع والمعيش اليومي، وذات علاقة وطيدة بالمجتمع، ولها ايضا أفضال عميمة في تقرير مصير الكون، والفكر الانساني والوجود منذ ان استعان الانسان بالمنطق في التعبير . وطرح الاسئلة للوصول لحلول لمشاكله وهمومه.. بعيدا عن الأحلام والتهويمات


كل التقدير السي حسنم ومزيدا من التألق
 

لوحة مختارة

 لوحة مقترحة
أعلى