نرحب بالكتاب الراغبين في الانضمام إلى مطر

أوهام ساطعة

كان النهار يحتضر، والغيوم المنخفضة التحفت السهول والوديان، وجعلت من البحر رماديًا، ووسعت المسافة بينها والسماء، فحظي جسد الطائرات بدفء الشمس الساطعة.

كانت المدينة ترزح تحت ضباب كثيف، ولم تكن الشمس قد انبلجت بعد. الخريف غزا الفصول وشرع في تعرية الأشجار من الأوراق الواهنة، التي تكدست في الأزقة والشوارع صابغة الأرض بألوانها الزاهية. غرفتي الصغيرة شبه المظلمة، بابها مواجه للممر المؤدي إلى الباب الخلفي للمنزل، نافذتها الوحيدة كانت متوارية خلف الستائر القاتمة. بدت الأجواء كضباب الليل.

كنت ألوذ بالصمت، فالصمت في تلك اللحظة كان غذاء الفكر والروح، مستلقيا على الفراش منغمسًا في أوهامي، كانت تلك الأوهام تهاجمني في الظلمة والمطر والريح، متناسيا الفوضى العارمة داخل الغرفة، حيث الأوراق المبعثرة فوق المنضدة والصورة المعلقة على الحائط على وشك السقوط، والساعة المنضدية قد سكتت إلى الأبد بعد أن أقلقتني يوم الأمس ورميتها بعيدًا، وفجأة ترامى إلى مسمعي في الممر الذي يفضي إلى باب غرفتي خطوات سريعة، جعلتني أنتفض عن سريري، كما لو كنت في نوبة حراسة أيقظني رنين الخطر.

هبط صمت لا يحتمل عدة لحظات، شرع مِقْبَض الباب بالدوران، اندفع الباب إلى الداخل بقوة فأصدر صريرًا صاخبا، بعد أن استفاق الصدأ من غيبوبته.

امتطت المشاعر وجهي وبان الذهول في نظراتي، سرعان ما أماط اللثام عن هواجسي معبرًا عن خفايا غامضة، حالمَا وجدتها واقفة قبالتي فجأة كقطرة ندى نقية لا تمسها الريح، بقامتها المتزنة، وخصرها النحيل، وخطواتها الرشيقة.

دخلت الغرفة، تاركة الباب شبه مفتوح، فتخللت خيوط الضوء الرقيقة من شق الباب لتتكسر على وجهها بنقاء ملحوظ، علت وجهها جهامة لا شعورية، كما لو أن كل تفاصيل حياتها بدت لي في لحظة من فوضى الحواس العارمة. اكتشفت على الفور خفايا المخبأة على امتداد حافات شواطئ ذكرياتها.

اجتاحني السهد كتيار جامح يندفع بسرعة رهيبة. طفقت الأسئلة تنهمر علي مثل مطر الصيف في زخة قوية. تجول في رأسي مفردات الطفولة، هل من المعقول أن أحظى بفرصة اللقاء؟ . هل أنا في حلم أم أرى شبحا؟ . في هذه اللحظة خالجتني مشاعر كثيرة كانت تجرفني كطوفان نوح. لم أنبس بكلمة، بل كنت أحدق إليها فقط. انتابتني قشعريرة في أوصالي. والتوتر نال من مظهري، لم أدرك مغزى الحدث.

هيمن على أجواء الغرفة كليا سكون مطبق. نعم إنها فتأتي التي أغرمت بها في شبابي. راح قلبها يخفق بشدة حتى تناهت نبضاته إلى مسامعي. خطوت نحوها بأناة. بدأت أحنو على شعرها وأداعب بأناملي شحمة أذنها. بدا للبصر شعرها أسود اللون أول الوهلة، ولكن عندما انكسرت خيوط الضوء عليه بدا لونه مائلًا إلى البني. حاولت أن أمسك بها بقوة كي لا تهرب بعيدًا.

على حين غرة أخذت الظلمة تكتنف الإرجاء، والضوء المتدفق عبر شق الباب يتلاشى إلى ما لا نهاية.

وفجأة أصبحت وحيدا في عالم الآخذ بالاندثار بعد أن غاب طيفها عن ناظري. خاب أملي وطغى التجهم القاتم على وجهي، عندما اكتشفت أن ما رأيته للتو، لم يكن سوى أوهام.
 
التعديل الأخير:

لوحة مختارة

 لوحة مقترحة
أعلى