نرحب بالكتاب الراغبين في الانضمام إلى مطر

مهرجان الضعفاء

انطلق (رحال) نحو السوق الأسبوعي للبلدة، كان "الثلاثاء" بالنسبة له يومَ عيد، فالرجل يعيش حياة بئيسة كحال معظم معدمي بلدة (العجيلات) الذين يعيشون على هامش الحياة. لم يكن صاحبنا يحتاج لأجندة بأيام الأسبوع أو للتعرف على الشهور والمناسبات، كان يعرف ذلك بالفطرة. ففي صبيحة كل يوم ثلاثاء ينطلق باكرا على وقع حوافر الدواب ـ من بغال وأحصنة ـ تجر العربات محدثة إيقاعا موسيقيا يشبه تلك الإيقاعات التي على ضوئها تشكلت بعض بحور الشعر وأوزانه حسب بعض الروايات التي صنفت بحر (الرجز) على أنه يساير إيقاعات أخفاف الجمال في سيرها وسراها بالصحراء، هكذا كان (رحال) يسير مبتهجا وبوصلة جمجمته تقوده نحو وجهته المبتغاة، يقطع حوالي اثني عشر كيلو مترا على قدميه دون إحساس بطول الطريق أو بقيظ أو قرّ. وحين يدخل من باب السوق الرئيسي تهتز جوارحه، وتشتعل أحاسيسه بحرارة خفية، فيسارع الخطى نحو بائعي الفول والحمص التي طبخت بالليل، وتمتد يده نحو الحبات البنية وتلك الصفراء، يلتقط منها ما يشاء، ولا أحد يردعه أو يزجره، فأهل هذه البلدة ـ التي هي قلب (دكالة) النابض ـ لا يقمعون جائعا ممن يطلب أكلا، بل إنهم يتغاضون عنه، يقول كبار السن منهم: (إنهم في هذه الأرض يحبون الأكل، وعدوهم الأكبر هو الجوع، طقوس الأكل عندهم مقدسة، لذلك ينأون بأنفسهم عن أن ينهروا جائعا محروما، بل يشعرون بسعادة إن امتدت يد إلى طعامهم أو شرابهم، ويعتبرون أن البركة تحل بأي شيء يأكل منه جائع أو محروم، بل إن الله يخلفه في الحين).

يمر (رحال) على بائع ثان، ثم ثالث ورابع.. ويمارس نفس الطقس المعتاد، كان يقدّر في الباعة كرمهم اتجاه الفقراء والبؤساء، وقد كان كثير من الصبية الأشقياء تمتد أياديهم لسلع الباعة، كانوا يمرون على بائعي الحلويات والفواكه ثم بائعي الثمار اليابسة، يملؤون أحيانا جيوبهم بما لذ وطاب بعد أن يملؤوا معداتهم.. وفي أركان السوق أيضا كلاب ـ تبدو ضالة ـ تأتي من القرى البعيدة، تأتي بدون مرافقة أصحابها، إنها مثل (رحال) تدفعها غريزة داخلية كأنما تخبرها بأن يوم الثلاثاء الموعود قد حل، فتشد الرحال منذ ساعات الصباح الأولى باتجاه بلدة تأتي إليها الشاحنات والعربات من أصقاع بعيدة جدا، كانت وجهة تلك الكلاب هي الجناح الخاص بالجزارين، وتصبح هذه الكائنات فجأة مسالمة جدا، تكتفي بالتقاط العظام والبقايا، وإذا زجرت تتنحى مستسلمة دون أن يصدر عنها أي نباح كأنما هي رهبة المكان فعلت فعلها، وفي المساء تولي وجهها نحو قراها من حيث جاءت.

في السوق تتعالى أصوات الباعة ومكبرات الصوت، أصحاب التمور وباعة مبيدات الحشرات ومعالجو الأمراض المستعصية لهم الرصيد الأكبر في السيطرة على إعلام السوق، فلا أحد يستطيع أن يجاريهم في الجانب المسموع، بينما باعة اللحوم المشوية وباعة الأسماك يهيمنون على حاسة الشم عند زوار السوق ومرتاديه، وأما باعة الأثواب والزرابي المزركشة والصوف الملونة فيهيمنون على الجانب المرئي للزبائن. ويبقى أن معدة أهل دكالة هي ما يحركهم، فالخيام الكبيرة ممتلئة بالرجال والنساء ممن يشربون الشاي أو الحساء ويلتهمون الأرغفة المستديرة المنتفخة التي لا مثيل لكبرها في أي من أسواق البلاد بطولها وعرضها، بينما تتعالى سحب اللحم المشوي هنا وهناك.

وأما الجانب العجائبي في هذا السوق فهو منظر الأبقار والثيران يتم تحميلها أو إنزالها من طوابق الشاحنات، ولكن المرء لا يعجب لذلك ما دام أهل هذه البلاد أعطاهم الله بسطة في الجسم والطول والقوة. ومما يعجب له المرء الغريب أيضا هو قيادة النسوة (الدكاليات) للعربات، فترى الواحدة منهن ممسكة بزمام الدابة بيد لتوجهها حيث شاءت، وتمسك بيد أخرى صغيرها الذي يرضع ثديها، أو تراها تبيع في الأسواق وتساوم كأنها تاجر خبير لا يجرؤ أحد أن يجاريه في ذكائه ومهارته..

وفي منتصف النهار، يصبح السوق في ذروة اكتظاظه، وقتها يكون (رحال) قد شبع من مختلف أصناف المأكولات دون أن يدفع قرشا واحدا، ويكون قد مرّ أيضا على أصحاب الحلقة الذين يلاعبون الحيات أو القردة، لكن الحركة تبدأ تقل تدريجيا، وبعض الباعة يبدؤون بجمع سلعهم، وتبدأ الأثمنة في التراجع في سوق الخضر، وتأتي عينات من البؤساء لشراء ما فضل من السلع، وربما التقاط ما تم رميه منها.. فيحس (رحال) بأن مهرجانه وعيده موشك على الانتهاء، ويستشعر سعادة ممزوجة بأسى الفراق بعد اللقاء، ويشرئب بعنقه نحو باب السوق الرئيسي من جديد، فيمر على باعة الأرغفة، يناوله أحدهم رغيفا أو رغيفين، فيدس هذا الرزق في غطاء رأس جلبابه كزاد للطريق، ثم يلتمس له طريق العودة، بينما عربات تجرها الجرارات يتكدس عليها جمع من الناس قد جلسوا وسط أمتعة وسلع عديدة، وفي طريق العودة كانت العربات المجرورة بالدواب تشق طريقها لا يردعها عن المرور على الأسفلت إلا منبهات السيارات القادمة من الاتجاهين، وقتها تلمع عينا (رحال) ببريق غريب، إنه الإحساس الذي ينتاب (الدكالي) حين يزور السوق الأسبوعي، وأما من تفوته هذه الزيارة فكأنما حلت به اللعنة الإلهية، ذلك أن أهالي القرى ينتظرون في هذا اليوم ذويهم محملين بما لذ وطاب، وتشتغل القدور، وتنبعث الروائح الطيبة، وتعرض أشهى المأكولات والهدايا من أثواب وألبسة وأفرشة في هذا اليوم البهي السعيد، ويبقى الأكل هو المتاع الأكبر لناس (دكالة) الذي بدونه لا معنى لحياتهم، ولا نعيم أو سعادة أو متعة إلا به.
 

لوحة مختارة

 لوحة مقترحة
أعلى